فصل: الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة التوبة

 مقدمة

 في أسمائها‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال‏:‏ تلك الفاضحة ما زال ينزل‏:‏ ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدا‏.‏ قال القشيري أبو نصر عبدالحميد‏:‏ هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها‏.‏ وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم‏.‏ وفي السورة كشف أسرار المنافقين‏.‏ وتسمى الفاضحة والبحوث، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة‏:‏ البحث‏.‏

 واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة‏:‏ ‏[‏الأول‏]‏ أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة‏.‏ وقول ثان‏:‏ روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي قال قال لنا ابن عباس‏:‏ قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى ‏[‏الأنفال‏]‏ وهي من المثاني وإلى ‏[‏براءة‏]‏ وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك‏؟‏ قال عثمان‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول‏:‏ ‏(‏ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا‏)‏‏.‏ وتنزل عليه الآيات فيقول‏:‏ ‏(‏ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا‏)‏‏.‏ وكانت (1)‏ من أوائل ما أنزلو (2)‏ من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنه منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال‏:‏ هدا حديث حسن‏.‏ وقول ثالث‏:‏ روي عن عثمان أيضا‏.‏ وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم‏:‏ إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه‏.‏ وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة ‏[‏براءة‏]‏ كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كانت مثل سورة البقرة‏.‏ وقول رابع‏:‏ قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما‏.‏ قالوا‏:‏ لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ براءة والأنفال سورة واحدة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هما سورتان‏.‏ فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف‏.‏ وقول خامس‏:‏ قال عبدالله بن عباس‏:‏ سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم‏؟‏ قال‏:‏ لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان‏.‏ وروي معناه عن المبرد قال‏:‏ ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة‏.‏ ومثله عن سفيان‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين‏.‏ والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري‏.‏ وفي قول عثمان‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك‏.‏ وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة ‏[‏براءة‏]‏ شبيهة بقصة ‏[‏الأنفال‏]‏ فألحقوها بها‏؟‏ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏

قوله تعالى‏{‏براءة‏}‏ تقول‏:‏ برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه‏.‏ و‏}‏براءة‏}‏ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة‏.‏ ويصح أن ترفع بالابتداء‏.‏ والخبر في قوله‏{‏إلى الذين‏}‏‏.‏ وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الإخبار عنها‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏}‏براءة‏}‏ بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء‏.‏ وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقدوا وعاهدوا فنسب العقد إليهم‏.‏ وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فسيحوا‏}‏ رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر‏.‏ يقال ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد‏:‏

لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح

واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله‏.‏ فقال محمد بن إسحاق وغيره‏:‏ هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه‏.‏ ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما‏:‏ عشرون من ذي الحجة والمحرم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله ‏}‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ وهذا اختيار الطبري وغيره‏.‏ وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما‏:‏ أن هذه الآية نزلت في أهل مكة‏.‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم‏.‏ وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم، فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور، فكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشد عمرو بن سالم فقال‏:‏

يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه ألا تلدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا عتدا وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا في فليق كالبحر يجري مربدا

إن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نصرت إن لم أنصر كعب‏)‏‏.‏ ثم نظر إلى سحابة فقال‏:‏ ‏(‏إنها لتستهل لنصر بني كعب‏)‏ يعني خزاعة‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه‏:‏ ‏(‏إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح وسينصرف بغير حاجة‏)‏‏.‏ فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف من خبره‏.‏ وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله، وذلك في سنة ثمان من الهجرة‏.‏ فلما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، على ما هو معروف مشهور من غزاة حنين‏.‏ وسيأتي بعضها‏.‏ وكان الظفر والنصر للمسلمين على الكافرين‏.‏ وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة‏.‏ وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم من الأموال والنساء، فلم يقسمها حتى أتى الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏ ونصب عليهم المنجنيق ورماهم به، على ما هو معروف من تلك الغزاة‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وقسم غنائم حنين، على ما هو مشهور من أمرها وخبرها‏.‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة‏.‏ وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام‏.‏ وحج المشركون على مشاعرهم‏.‏ وكان عتاب بن أسيد خيرا فاضلا ورعا‏.‏ وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتدحه، وأقام على رأسه بقصيدته التي أولها‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم - وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم - فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال‏:‏

من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابرا عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع كسوافل الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم للموت يوم تعانق وكرار

يتطهرون يرونه نسكا لهم بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت ببطن خفية غلب الرقاب من الأسود ضوار

وإذا حللت ليمنعوك إليهم أصبحت عند معاقل الأغفار

ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله فيهم لصدقني الذين أماري

قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخر، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك‏.‏ وهي شخر غزوة غزاها‏.‏ قال ابن جريج عن مجاهد‏:‏ لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أراد الحج ثم قال‏:‏ ‏(‏إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك‏)‏‏.‏ فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر ‏[‏براءة‏]‏ ليقرأها على أهل الموسم‏.‏ فلما خرج دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وقال‏:‏ ‏(‏أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا‏)‏‏.‏ فخرج عليٌ على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بذي الحليفة‏.‏ فقال له أبو بكر لما رآه‏:‏ أمير أو مأمور‏؟‏ فقال‏:‏ بل مأمور ثم نهضا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية‏.‏ في كتاب النسائي عن جابر وأن عليا قرأ على الناس ‏[‏براءة‏]‏ حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم‏.‏ وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام‏.‏ فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم‏.‏ فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس ‏[‏براءة‏]‏ حتى ختمها‏.‏ وقال سليمان بن موسى‏:‏ لما خطب أبو بكر بعرفة قال قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي ففعل‏.‏ قال‏:‏ ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر‏.‏ وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قال‏:‏ سألت عليا بأي شيء بعثت في الحج‏؟‏ قال‏:‏ بعثت بأربع‏:‏ ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وأخرجه النسائي وقال‏:‏ فكنت أنادي حتى صحل صوتي‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ بعث علي لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ وأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر‏.‏ ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل حجته التي لم يحج غيرها من المدينة، فوقعت حجته في ذي الحجة فقال‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، على ما يأتي في آية النسيء بيانه‏.‏ وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة‏.‏ وذكر مجاهد‏:‏ أن أبا بكر حج في ذي القعدة من سنة تسع‏.‏ ابن العربي‏:‏ وكانت الحكمة في إعطاء ‏[‏براءة‏]‏ لعلي أن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم‏.‏ قال معناه الزجاج‏.‏

قال العلماء‏:‏ وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين‏.‏ ولذلك حالتان‏:‏ حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب‏.‏ والإيذان اختيار‏.‏ والثانية‏:‏ أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهدهم كما سبق‏.‏ ابن عباس‏:‏ والآية منسوخة فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأذان‏}‏ الأذان‏:‏ الإعلام لغة من غير خلاف‏.‏ وهو عطف على ‏}‏براءة‏}‏‏.‏ ‏}‏إلى الناس‏}‏ الناس هنا جميع الخلق‏.‏ ‏}‏يوم الحج الأكبر‏}‏ ظرف، والعامل فيه ‏}‏أذان‏}‏‏.‏ وإن كان قد وصف بقوله‏{‏من الله‏}‏، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف‏.‏ وقيل‏:‏ العامل فيه ‏}‏مخزي‏}‏ ولا يصح عمل ‏}‏أذان‏}‏، لأنه قد وصف فخرج عن حكم الفعل‏.‏

واختلف العلماء في الحج الأكبر، فقيل‏:‏ يوم عرفة‏.‏ روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي‏.‏ وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر‏.‏ واختاره الطبري‏.‏ وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال‏:‏ ‏(‏أي يوم هذا‏)‏ فقالوا‏:‏ يوم النحر فقال‏:‏ ‏(‏هذا يوم الحج الأكبر‏)‏‏.‏ أخرجه أبو داود‏.‏ وخرج البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى‏:‏ لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ ويوم الحج الأكبر يوم النحر‏.‏ وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس‏:‏ الحج الأصغر‏.‏ فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك‏.‏ وقال ابن أبي أوفى‏:‏ يوم النحر يوم الحج الأكبر، يهراق فيه الدم، ويوضع فيه الشعر، ويلقى فيه التفث، وتحل فيه الحرم‏.‏ وهذا مذهب مالك، لأن يوم النحر فيه كالحج كله، لأن الوقوف إنما هو ليلته، والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته‏.‏ احتج الأولون بحديث مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يوم الحج الأكبر يوم عرفة‏)‏‏.‏ رواه إسماعيل القاضي‏.‏ وقال الثوري وابن جريج‏:‏ الحج الأكبر أيام منى كلها‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ يوم صفين ويم الجمل ويوم بعاث، فيراد به الحين والزمان لا نفس اليوم‏.‏ وروي عن مجاهد‏:‏ الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد‏.‏ وهذا ليس من الآية في شيء‏.‏ وعنه وعن عطاء‏:‏ الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ أيام الحج كلها‏.‏ وقال الحسن وعبدالله بن الحارث بن نوفل‏:‏ إنما سمي يوم الحج الأكبر لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، واتفقت فيه يومئذ أعياد الملل‏:‏ اليهود والنصارى والمجوس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا ضعيف أن يصفه الله عز وجل في كتابه بالأكبر لهذا‏.‏ وعن الحسن أيضا‏:‏ إنما سمي الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود‏.‏ وهذا الذي يشبه نظر الحسن‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ يوم الحج الأكبر العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وحجت معه فيه الأمم‏.‏

قوله تعالى‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ بالفتح في موضع نصب‏.‏ والتقدير بأن الله‏.‏ ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله ‏}‏بريء‏}‏ خبر أن‏.‏ ‏}‏ورسوله‏}‏ عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في ‏}‏بريء‏}‏‏.‏ كلاهما حسن؛ لأنه قد طال الكلام‏.‏ وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف؛ التقدير‏:‏ ورسوله بريء منهم‏.‏ ومن قرأ ‏}‏ورسوله‏}‏ بالنصب - وهو الحسن وغيره - عطفه على اسم الله عز وجل على اللفظ‏.‏ وفي الشواذ ‏}‏رسوله‏}‏ بالخفض على القسم، أي وحق رسوله؛ ورويت عن الحسن‏.‏ وقد تقدمت قصة عمر فيها أول الكتاب‏.‏ ‏}‏فإن تبتم‏}‏ أي عن الشرك‏.‏ ‏}‏فهو خير لكم‏}‏ أي أنفع لكم‏.‏ ‏}‏وإن توليتم‏}‏ أي عن الإيمان‏.‏ ‏}‏فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ أي فائتيه؛ محيط بكم ومنزل عقابه عليكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى‏:‏ أن الله بريء من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهدهم‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء منقطع، أي أن الله بريء منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهدهم‏.‏ وقوله‏{‏ثم لم ينقصوكم‏}‏ يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبييه صلى الله عليه وسلم في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته‏.‏ ومعنى ‏}‏لم ينقصوكم‏}‏ أي من شروط العهد شيئا‏.‏ ‏}‏ولم يظاهروا‏}‏ لم يعاونوا‏.‏ وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار ‏}‏ثم لم ينقضوكم‏}‏ بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم‏.‏ يقال‏:‏ إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة‏.‏ ثم قال‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ أي خرج‏.‏ وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي

وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل‏.‏ وسلخت المرأة درعها نزعته وفي التنزيل‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏يس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسرها أخضر‏.‏

والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان‏:‏ قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد‏.‏ قال الأصم‏:‏ أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر‏.‏ وقد تقدم هذا‏.‏ وقيل‏:‏ شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب‏.‏ وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة ‏}‏البقرة‏}‏ من امرأة وراهب وصبي وغيرهم‏.‏ وقال الله تعالى في أهل الكتاب‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏‏.‏ إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه‏.‏ واعلم أن مطلق قوله‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة‏.‏ ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية‏.‏ وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏حيث وجدتموهم‏}‏ عام في كل موضع‏.‏ وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة ‏}‏البقرة‏}‏ ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل‏:‏ نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء‏.‏ وقال الضحاك والسدي وعطاء‏:‏ هي منسوخة بقوله‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ بل هي ناسخة لقوله تعالى‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏ وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الآيتان محكمتان‏.‏ وهو الصحيح، لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق‏.‏ وقوله‏{‏وخذوهم‏}‏ يدل عليه‏.‏ والأخذ هو الأسر‏.‏ والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام‏.‏ ومعنى‏{‏احصروهم‏}‏ يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان‏.‏

قوله تعالى‏{‏واقعدوا لهم كل مرصد‏}‏ المرصد‏:‏ الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال‏:‏ رصدت فلانا أرصده، أي رقبته‏.‏ أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون‏.‏ قال عامر بن الطفيل‏:‏

ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد

وقال عدي‏:‏

أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد

وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة‏.‏ ونصب ‏}‏كل‏}‏ على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال‏:‏ ذهبت طريقا وذهبت كل طريق‏.‏ أو بإسقاط الخافض، التقدير‏:‏ في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق‏.‏ وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال‏:‏ الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه‏:‏ دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل‏:‏

كما عسل الطريق الثعلب

قوله تعالى‏{‏فإن تابوا‏}‏ أي من الشرك‏.‏ ‏}‏وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏}‏ هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال‏{‏فإن تابوا‏}‏‏.‏ والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، ودلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة‏.‏ وهذا بين في هدا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما‏.‏ نظيره قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏)‏‏.‏ وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏‏(‏والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال‏)‏ وقال ابن عباس‏:‏ رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ فانتظم القرآن والسنة واطردا‏.‏ ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه‏.‏ واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس بن عبدالأعلى قال‏:‏ سمعت ابن وهب يقول قال مالك‏:‏ من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي‏.‏ وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي‏.‏ ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏‏.‏ وقالوا‏:‏ حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس‏)‏‏.‏ وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق‏.‏ قال إسحاق‏:‏ وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك‏.‏ وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر‏.‏

هذه الآية دالة على أن من قال‏:‏ قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة‏.‏ وقال في آية الربا ‏}‏وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم‏}‏البقرة‏:‏279‏]‏‏.‏ وقال‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن أحد من المشركين‏}‏ أي من الذين أمرتك بقتالهم‏.‏ ‏}‏استجارك‏}‏ أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه‏.‏ فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه‏.‏ وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال‏:‏ جئت أطلب الأمان‏.‏ قال مالك‏:‏ هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه‏.‏ قال ابن قاسم‏:‏ وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول‏:‏ ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع‏.‏ وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته‏.‏

ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار‏.‏ واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء‏.‏ إلا أن ابن حبيب قال‏:‏ ينظر الإمام فيه‏.‏ وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والأوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا‏.‏ والأول أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فلما قال ‏(‏أدناهم‏)‏ جاز أمان العبد، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك، ولا اعتبار بعلة ‏(‏لا يسهم له‏)‏‏.‏ وقال عبدالملك بن الماجشون‏:‏ لا يجوز أمان المرأة إلا أن يجيزه الإمام، فشذ بقوله عن الجمهور‏.‏ وأما الصبي فإذا أطاق القتال جاز أمانه، لأنه من جملة المقاتلة، ودخل في الفئة الحامية‏.‏ وقد ذهب الضحاك والسدي إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الآية إنما كان حكمها باقيا مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، وليس بشيء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال‏:‏ إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأربعة الأشهر فيسمع كلام الله ويأتيه بحاجة قتل فقال علي بن أبي طالب‏:‏ لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏‏.‏ وهذا صحيح‏.‏ والآية محكمة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن أحد‏}‏ ‏}‏أحد‏}‏ مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده‏.‏ وهذا حسن في ‏}‏إن‏}‏ وقبيح في أخواتها‏.‏ ومذهب سيبويه في الفرق بين ‏}‏إن‏}‏ وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولأنها لا تكون في غيره‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ أما قوله - لأنها لا تكون في غيره - فغلط، لأنها تكون بمعنى - ما - ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غيرها‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

لا تجرعي إن منفسا أهلكته وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

قال العلماء في قوله تعالى‏{‏حتى يسمع كلام الله‏}‏ دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لقوله تعالى‏{‏حتى يسمع كلام الله‏}‏ فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه‏.‏ ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا‏:‏ سمعنا كلام الله‏.‏ وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس‏.‏ وقد مضى في سورة ‏}‏البقرة‏}‏ معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام‏}‏ كيف هنا للتعجب، كما تقول‏:‏ كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني‏.‏ و‏}‏عهد‏}‏ اسم يكون‏.‏ وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال‏:‏

وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب

التقدير‏:‏ فكيف مات، عن الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا‏.‏ ثم استثنى فقال‏{‏إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام‏}‏‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا‏.‏ ‏}‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين

أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك ابن زيد‏:‏ فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كيف وإن يظهروا عليكم‏}‏ أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم، أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة‏.‏ يقال‏:‏ ظهرت على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته، ومنه ‏}‏فما استطاعوا أن يظهروه‏}‏الكهف‏:‏ 97‏]‏ أي يعلوا عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا يرقبوا فيكم‏}‏ ‏}‏يرقبوا‏}‏ يحافظوا‏.‏ والرقيب الحافظ‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏إلا‏}‏ عهدا، عن مجاهد وابن زيد‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ هو اسم من أسماء الله عز وجل‏.‏ ابن عباس والضحاك‏:‏ قرابة‏.‏ الحسن‏:‏ جوارا‏.‏ قتادة‏:‏ حلفا، و‏}‏ذمة‏}‏ عهدا‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ يمينا‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ إلا العهد، والذمة التذمم‏.‏ الأزهري‏:‏ اسم الله بالعبرانية، وأصله من الأليل وهو البريق، يقال أل لونه يؤل ألا، أي صفا ولمع‏.‏ وقيل‏:‏ أصله من الحدة، ومنه الألة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة‏.‏ ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب‏.‏

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد

فإذا قيل للعهد والجوار والقرابة ‏}‏إل‏}‏ فمعناه أن الأذن تصرف إلى تلك الجهة، أي تحدد لها‏.‏ والعهد يسمى ‏}‏إلا‏}‏ لصفائه وظهوره‏.‏ ويجمع في القلة آلال‏.‏ وفي الكثرة إلال‏.‏ وقال الجوهري وغيره‏:‏ الإل بالكسر هو الله عز وجل، والإل أيضا العهد والقرابة‏.‏ قال حسان‏:‏

لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام

قوله تعالى‏{‏ولا ذمة‏}‏ أي عهدا‏.‏ وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب‏.‏ قال ابن عباس والضحاك وابن زيد‏:‏ الذمة العهد‏.‏ ومن جعل الإل العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين‏.‏ وقال أبو عبيدة معمر‏:‏ الذمة التذمم‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ الذمة الأمان في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ويسعى بذمتهم أدناهم‏)‏‏.‏ وجمع ذمة ذمم‏.‏ وبئر ذمة - بفتح الذال - قليلة الماء، وجمعها ذمام‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

على حميريات كأن عيونها ذمام الركايا أنكزتها المواتح

أنكزتها أذهبت ماءها‏.‏ وأهل الذمة أهل العقد‏.‏

قوله تعالى‏{‏يرضونكم بأفواههم‏}‏ أي يقولون بألسنتهم ما يرضي ظاهره‏.‏ ‏}‏وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون‏}‏ أي ناقضون العهد‏.‏ وكل كافر فاسق، ولكنه أراد ههنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏

يعني المشركين في نقضهم العهود بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا‏.‏ ‏}‏فصدوا عن سبيله‏}‏ أي أعرضوا، من الصدود أو منعوا عن سبيل الله، من الصد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون‏}‏

قال النحاس‏:‏ ليس هذا تكريرا، ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة‏.‏ والدليل على هذا ‏}‏اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا‏}‏ يعني اليهود، باعوا حجج الله عز وجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شيء‏.‏ ‏}‏وأولئك هم المعتدون‏}‏ أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام‏.‏ ‏}‏فإخوانكم‏}‏ أي فهم إخوانكم ‏}‏في الدين‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ حرمت هذه دماء أهل القبلة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له‏.‏ وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول والله تعالى يقول لك ‏}‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ومن قال أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله تعالى يقول‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله عز وجل يقول‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏لقمان‏:‏ 14‏]‏‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ونفصل الآيات‏}‏ أي نبينها‏.‏ ‏}‏لقوم يعلمون‏}‏ خصهم لأنهم هم المنتفعون بها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ النكث النقض، وأصله في كل ما قتل ثم حل‏.‏ فهي في الأيمان والعهود مستعارة‏.‏ قال‏:‏

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين

أي عهد‏.‏ ‏}‏وطعنوا في دينكم‏}‏ أي بالاستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك‏.‏ يقال‏:‏ طعنه بالرمح وطعن بالقول السيء فيه يطعن، بضم العين فيهما‏.‏ وقيل‏:‏ يطعن بالرمح - بالضم - ويطعن بالقول - بالفتح - ‏.‏ وهي هنا استعارة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة‏:‏ ‏(‏إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة‏)‏‏.‏ خرجه الصحيح‏.‏

استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر‏.‏ والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل‏.‏ وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي‏.‏ وقد حكي عن النعمان أنه قال‏:‏ لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، على ما يأتي‏.‏ وروي أن رجلا قال في مجلس علي‏:‏ ما قتل كعب بن الأشرف إلا غدرا، فأمر علي بضرب عنقه‏.‏ وقال آخر في مجلس معاوية فقام محمد بن مسلمة فقال‏:‏ أيقال هذا في مجلسك وتسكت والله لا أساكنك تحت سقف أبدا، ولئن خلوت به لأقتلنه‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو الذي فهمه علي ومحمد بن مسلمة رضوان الله عليهما من قائل ذلك، لأن ذلك زندقة‏.‏ فأما إن نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول‏:‏ إنهم أمنوه ثم غدروه لكانت هذه النسبة كذبا محضا، فإنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجههم لقتله لا لتأمينه، وأذن لمحمد بن مسلمة في أن يقول‏.‏ وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر وتردد‏.‏ وسببه هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد صوب فعلهم ورضي به فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر ومن صرح بذلك قتل، أولا يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتل‏.‏ وإذا قلنا لا يقتل، فلا بد من تنكيل ذلك القائل وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد والإهانة العظيمة‏.‏

فأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ الآية‏.‏ فأمر بقتلهم وقتالهم‏.‏ وهو مذهب الشافعي رحمه الله‏.‏ وقال أبو حنيفة في هذا‏:‏ إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين‏:‏ أحدهما نقضهم العهد، والثاني طعنهم في الدين‏.‏

قلنا‏:‏ إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا‏.‏ وتقدير الآية عندنا‏:‏ فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم‏.‏ وقد روي أن عمر رفع إليه ذمي نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشفت بعض عورتها، فأمر بصلبه في الموضع‏.‏

إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا معه‏.‏ وقال محمد بن مسلمة‏:‏ لا يؤاخذ ولده به، لأنه نقض وحده‏.‏ وقال‏:‏ أما ماله فيؤخذ‏.‏ وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد بن مسلمة، لأن عهده هو الذي حمى ماله وولده، فإذا ذهب عنه ماله ذهب عنه ولده‏.‏ وقال أشهب‏:‏ إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود في الرق أبدا‏.‏ وهذا من العجب، وكأنه رأى العهد معنى محسوسا‏.‏ وإنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون له، فإذا نقضه انتقض كسائر العقود‏.‏

أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل، فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا‏.‏ إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا‏:‏ لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر‏.‏ والحجة عليه قوله تعالى‏{‏وإن نكثوا‏}‏ الآية‏.‏ واستدل عليه بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وكان معاهدا‏.‏ وتغيظ أبو بكر على رجل من أصحابه فقال أبو برزة‏:‏ ألا أضرب عنقه فقال‏:‏ ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى الدارقطني عن ابن عباس‏:‏ أن رجلا أعمى كانت له أم ولد، له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، فكانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلم تنته، ويزجرها فلم تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم فما صبر سيدها أن قام إلى معول فوضعه في بطنها، ثم اتكأ عليها حتى أنفذه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا اشهدوا إن دمها هدر‏)‏‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ فقتلها، فلما أصبح قيل، ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام الأعمى فقال‏:‏ يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فقتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا اشهدوا إن دمها هدر‏)‏‏.‏

واختلفوا إذا سبه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل يسقط إسلامه قتله، وهو المشهور من المذهب، لأن الإسلام يجب ما قبله‏.‏ بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب قال الله عز وجل‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏الأنفال‏:‏38‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتبية لأنه حق للنبي صلى الله عليه وسلم وجب لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، ولا يكون أحسن حالا من المسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ ‏}‏أئمة‏}‏ جمع إمام، والمراد صناديد قريش - في قول بعض العلماء - كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف‏.‏ وهذا بعيد، فإن الآية في سورة ‏}‏براءة‏}‏ وحين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد ‏}‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏‏.‏ أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا‏.‏ ويحتمل أن يعنى به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم‏.‏ والأصل أأممة كمثال وأمثلة، ثم أدغمت الميم في الميم وقلبت الحركة على الهمزة فاجتمعت همزتان، فأبدلت من الثانية ياء‏.‏ وزعم الأخفش أنك تقول‏:‏ هذا أيم من هذا، بالياء‏.‏ وقال المازني‏:‏ أوم من هذا، بالواو‏.‏ وقرأ حمزة ‏}‏أئمة‏}‏‏.‏ وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة‏.‏ ‏}‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ أي لا عهود لهم، أي ليست عهودهم صادقة يوفون بها‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏}‏لا إيمان لهم‏}‏ بكسر الهمزة من الإيمان، أي لا إسلام لهم‏.‏ ويحتمل أن يكون مصدر آمنته إيمانا، من الأمن الذي ضده الخوف، أي لا يؤمنون، من آمنته إيمانا أي أجرته، فلهذا قال‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏‏.‏ ‏}‏لعلهم ينتهون‏}‏ أي عن الشرك‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكة سنة وهو بالحديبية فحبسوه عن البيت، ثم صالحوه على أن يرجع فمكثوا ما شاء الله، ثم قاتل حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة حلفاء بني أمية من كنانة، فأمدت بنو أمية حلفاءهم بالسلاح والطعام، فاستعانت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعين حلفاءه كما سبق‏.‏ وفى البخاري عن زيد بن وهب قال‏:‏ كنا عند حذيفة فقال ما بقي من أصحاب هذه الآية - يعني ‏}‏فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم‏}‏ - إلا ثلاثة، ولا بقي من المنافقين إلا أربعة‏.‏ فقال أعرابي‏:‏ إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي تزعمون ألا منافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا قال‏:‏ أولئك الفساق أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده‏.‏ ‏}‏لعلهم ينتهون‏}‏ أي عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين‏.‏ وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم‏}‏ توبيخ وفيه معنى التحضيض نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا‏.‏ ‏}‏وهموا بإخراج الرسول‏}‏ أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الإخراج إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم‏:‏ عن الحسن‏.‏ ‏}‏وهم بدؤوكم‏}‏ بالقتال‏.‏ ‏}‏أول مرة‏}‏ أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة‏.‏ وقيل‏:‏ بدؤوكم بالقتال يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها؛ كما تقدم‏.‏ ‏}‏فالله أحق أن تخشوه‏}‏ أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه‏.‏ وقيل‏:‏ إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 14 ‏:‏ 15 ‏)‏

‏{‏قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قاتلوهم‏}‏ أمر‏.‏ ‏}‏يعذبهم الله‏}‏ جوابه‏.‏ وهو جزم بمعنى المجازاة‏:‏ والتقدير‏:‏ إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين‏.‏ ‏}‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ دليل على أن غيظهم كان قد اشتد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول‏.‏ ويجوز النصب على إضمار ‏(‏أن‏)‏ وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال‏:‏

فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام

وإن شئت رفعت ‏(‏ونأخذ‏)‏ وإن شئت نصبته‏.‏ والمراد بقوله‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ بنو خزاعة، على ما ذكرنا عن مجاهد‏.‏ فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة‏:‏ لئن أعدته لأكسرن فمك، فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال، فقتلوا من الخزاعيين أقواما، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال‏:‏ ‏(‏اسكبوا إلي ماء‏)‏ فجعل يغتسل وهو يقول‏:‏ ‏(‏لا نصرت إن لم أنصر بني كعب‏)‏‏.‏ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويتوب الله على من يشاء‏}‏ القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأول ولهذا لم يقل ‏(‏ويتب‏)‏ بالجزم لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جل وعز وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره‏{‏فإن يشأ الله يختم على قلبك‏}‏الشورى‏:‏ 24‏]‏ تم الكلام‏.‏ ثم قال‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏الشورى‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو، فإنهم أسلموا‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق ‏}‏ويتوب‏}‏ بالنصب‏.‏ وكذا روي عن عيسى الثقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط، لأن المعنى‏:‏ إن تقاتلوهم يعذبهم الله‏.‏ وكذلك ما عطف عليه‏.‏ ثم قال‏{‏ويتوب الله‏}‏ أي إن تقاتلوهم‏.‏ فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم‏.‏ والرفع أحسن، لأن التوبة لا يكون سببها القتال، إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم حسبتم‏}‏ خروج من شيء إلى شيء‏.‏ ‏}‏أن تتركوا‏}‏ في موضع المفعولين على قول سيبويه‏.‏ وعند المبرد أنه قد حذف الثاني‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع‏.‏ ‏}‏ولما يعلم‏}‏ جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك‏:‏ قد فعل كما تقدم‏.‏ وكسرت الميم لالتقاء الساكنين‏.‏ ‏}‏وليجة‏}‏ بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس الذي تلج فيه الوحوش تولجا ولج يلج ولوجا إذا دخل والمعنى‏:‏ دخيلة مودة من دون الله ورسوله وقال أبو عبيدة‏:‏ كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة وقال ابن زيد‏:‏ الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدُخلة أمره دون الناس‏.‏ تقول‏:‏ هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء قال أبان بن تغلب رحمه الله‏:‏

فبئس الوليجة للهاربين والمعتدين وأهل الريب

وقيل‏:‏ وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره ‏}‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ وليجة بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ الجملة من ‏}‏أن يعمروا‏}‏ في موضع رفع اسم كان‏.‏ ‏}‏شاهدين‏}‏ على الحال‏.‏ واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل‏:‏ أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون‏.‏ وقيل‏:‏ إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال‏:‏ تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا‏.‏ فقال علي‏:‏ ألكم محاسن‏؟‏ قال‏:‏ نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه‏.‏ فيجب إذا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏يعمر‏}‏ بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر‏.‏ وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته‏.‏ وقرئ ‏}‏مسجد الله‏}‏ على التوحيد أي المسجد الحرام‏.‏ وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب‏.‏ والباقون ‏}‏مساجد‏}‏ على التعميم‏.‏ وهو اختيار أبي عبيد، لأنه أعم والخاص به يدخل تحت العام‏.‏ وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة‏.‏ وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال‏:‏ فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا‏.‏ والقراءة ‏}‏مساجد‏}‏ أصوب، لأنه يحتمل المعنى‏.‏ وقد أجمعوا على قراءة قوله‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ على الجمع، قاله النحاس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها‏.‏

قوله تعالى‏{‏شاهدين‏}‏ قيل‏:‏ أراد وهم شاهدون فلما طرح ‏}‏وهم‏}‏ نصب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم، وإقرارهم أنها مخلوقة‏.‏ وقال السدي‏:‏ شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول له‏.‏ ما دينك‏؟‏ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ‏.‏ ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك‏.‏ ‏}‏أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون‏}‏ تقدم معناه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها‏.‏ وقد قال بعض السلف‏:‏ إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن‏.‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ‏(‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان‏)‏ قال الله تعالى‏{‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏يتعاهد المسجد‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات، فإن الشهادات لها أحوال عند العارفين بها فإن منهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل، وكل واحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته‏.‏ ‏}‏ولم يخش إلا الله‏}‏ إن قيل‏:‏ ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون والأنبياء يخشون الأعداء من غيرهم‏.‏ قيل له‏:‏ المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد‏:‏ فإن المشركين كانوا يعبدون الأوثان ويخشونها ويرجونها‏.‏ جواب ثان - أي لم يخف في باب الدين إلا الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد أثبت الإيمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله‏.‏ ولم يذكر الإيمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن بالرسول‏.‏ قيل له‏:‏ دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر‏.‏ و‏}‏عسى‏}‏ من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ عسى بمعنى خليق أي فخليق‏}‏ أن يكونوا من المهتدين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ التقدير في العربية‏:‏ أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله‏.‏ ويصح أن يقدر الحذف في ‏}‏من آمن‏}‏ أي أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير كإيمان من آمن‏.‏ والسقاية مصدر كالسعاية والحماية‏.‏ فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير‏.‏ وعمارة المسجد الحرام مثل ‏}‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقرأ أبو وجزة ‏}‏أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام‏}‏ سقاة جمع ساق والأصل سقية على فعلة، كذا يجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقضاة وناس ونساة‏.‏ فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة، نحو ناسئ ونسأة، للذين كانوا ينسؤون الشهور‏.‏ وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير ‏}‏سقاة وعمرة‏}‏ إلا أن ابن جبير نصب ‏}‏المسجد‏}‏ على إرادة التنوين في ‏}‏عمرة‏}‏ وقال الضحاك‏:‏ سقاية بضم السين، وهي لغة‏.‏ والحاج اسم جنس الحجاج‏.‏ وعمارة المسجد الحرام‏:‏ معاهدته والقيام بمصالحه‏.‏ وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدي‏.‏ قال‏:‏ افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي بالإسلام والجهاد، فصدق الله عليا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة‏.‏ وهذا بين لا غبار عليه‏.‏ ويقال‏:‏ إن المشركين سألوا اليهود وقالوا‏:‏ نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه‏؟‏ فقالت لهم اليهود عنادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنتم أفضل‏.‏ وقد اعترض هنا إشكال وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال‏:‏ كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل‏:‏ ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج‏.‏ وقال آخر‏:‏ ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام‏.‏ وقال آخر‏:‏ الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم‏.‏ فزجرهم عمر وقال‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال‏.‏ وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ فتعين الإشكال‏.‏ وإزالته بأن يقال‏:‏ إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية‏.‏ وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ‏.‏ واستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة‏.‏ قيل له‏:‏ لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين‏.‏ وقد قال عمر‏:‏ إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏}‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة‏.‏ فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع‏.‏ وهذا نفيس وبه يزول الإشكال ويرتفع الإبهام، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ وخبره ‏}‏أعظم درجة عند الله‏}‏‏.‏ و‏}‏درجة‏}‏ نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة‏.‏ وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال‏:‏ المؤمن أعظم درجة‏.‏ والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏أعظم درجة‏}‏ من كل ذي درجة، أي لهم المزية والمرتبة العلية‏.‏ ‏}‏وأولئك هم الفائزون‏}‏ بذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يبشرهم ربهم‏}‏ أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم‏.‏ والنعيم‏:‏ لين العيش ورغده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏خالدين‏}‏ نصب على الحال‏.‏ والخلود الإقامة‏.‏ ‏}‏إن الله عنده أجر عظيم‏}‏ أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون‏}‏

ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين‏.‏ وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة‏.‏ فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر‏.‏ ‏}‏إن استحبوا‏}‏ أي أحبوا، كما يقال‏:‏ استجاب بمعنى أجاب‏.‏ أي لا تطيعوهم ولا تخصوهم‏.‏ وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها‏.‏ فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان‏.‏ وفي مثله تنشد الصوفية‏:‏

يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب

فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب

فكم من بعيد الدار نال مراده وآخر جار الجنب مات كئيب

ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء‏.‏ والإحسان والهبة مستثناة من الولاية‏.‏ قالت أسماء‏:‏ يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏صلي أمك‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ ‏}‏ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو مشرك مثلهم لأن من رضي بالشرك فهو مشرك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته‏:‏ إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول‏:‏ والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا‏.‏ ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له‏:‏ أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت ‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان‏}‏‏.‏ يقول‏:‏ إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة‏.‏ ‏}‏ومن يتولهم منكم‏}‏ بعد نزول الآية ‏}‏فأولئك هم الظالمون‏}‏‏.‏ ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم‏}‏ وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء‏.‏ ‏}‏وأموال اقترفتموها‏}‏ يقول‏:‏ اكتسبتموها بمكة‏.‏ وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره‏.‏ ‏}‏وتجارة تخشون كسادها‏}‏ قال ابن المبارك‏:‏ هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا

‏{‏ومساكن ترضونها‏}‏ يقول‏:‏ ومنازل تعجبكم الإقامة فيها‏.‏ ‏}‏أحب إليكم من الله ورسوله

من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة‏.‏ ‏}‏وأحب‏}‏ خبر كان‏.‏ ويجوز في غير القرآن رفع ‏}‏أحب‏}‏ على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

إذا مت كان الناس صنفان‏:‏ شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع

وأنشد‏:‏

هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول

وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب‏.‏ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله‏.‏ ‏}‏وجهاد في سبيله فتربصوا‏}‏ صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد‏.‏ يقول‏:‏ انتظروا‏.‏ وفي قوله‏{‏وجهاد في سبيله‏}‏ دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال‏.‏ وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة‏.‏ وقد مضى من أحكام الهجرة في ‏}‏النساء‏}‏ ما فيه كفاية، والحمد لله‏.‏ وفي الحديث الصحيح ‏(‏إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة‏)‏‏.‏ وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الشيطان‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فذكره‏.‏ قال البخاري‏:‏ ‏(‏ابن الفاكه‏)‏ ولم يذكر فيها اختلافا‏.‏ وقال ابن أبي عدي‏:‏ يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه‏.‏ انتهى‏.‏